المركز الإفريقي للإستشارات
شكّل انعقاد المؤتمر الوزاري الثاني لمنتدى الشراكة الروسية-الأفريقية في القاهرة يومي 19 و20 ديسمبر 2025 محطة سياسية ودبلوماسية مهمة في مسار العلاقات بين روسيا والقارة الأفريقية، ليس فقط بوصفه اجتماعًا دوريًا لمتابعة التعاون، وإنما باعتباره تعبيرًا واضحًا عن تحولات أعمق في بنية النظام الدولي واتجاهات التوازنات الجيوسياسية المتشكلة في الجنوب العالمي. فقد جاء المؤتمر في سياق إقليمي ودولي شديد التعقيد، يتسم بتصاعد الصراعات، وتراجع الثقة في المؤسسات الدولية التقليدية، وتنامي أدوار الفاعلين غير الغربيين، وعلى رأسهم روسيا والصين، في إعادة صياغة علاقاتهم مع إفريقيا على أسس جديدة.
يُعد منتدى الشراكة الروسية-الأفريقية أحد الأطر المؤسسية التي اعتمدتها موسكو لتعزيز حضورها في القارة، منذ إطلاقه عقب قمة سوتشي عام 2019، ثم تعزيزه في قمة سانت بطرسبرغ 2023، وصولًا إلى المؤتمرات الوزارية التي تهدف إلى ترجمة التعهدات السياسية إلى برامج عمل قابلة للتنفيذ. وفي هذا السياق، اكتسب المؤتمر الوزاري الثاني أهمية خاصة، كونه جاء بعد عام من المؤتمر الأول، وفي ظل تسارع التنافس الدولي على إفريقيا، واحتدام المواجهة غير المباشرة بين روسيا والغرب على مساحات النفوذ السياسي والاقتصادي والأمني في القارة.
استضافة مصر للمؤتمر عكست من جهة موقعها المحوري في التفاعلات الأفريقية-الدولية، ومن جهة أخرى دورها كحلقة وصل بين روسيا والمؤسسات القارية، خاصة في ظل رئاستها السابقة للاتحاد الأفريقي وما تمتلكه من ثقل دبلوماسي إقليمي. وقد شارك في المؤتمر ممثلون عن أكثر من خمسين دولة أفريقية على المستوى الوزاري، إلى جانب وفود من الاتحاد الأفريقي ومنظمات إقليمية، فيما ترأس الجانب الروسي وزير الخارجية سيرغي لافروف، ما منح المؤتمر وزنًا سياسيًا واضحًا يتجاوز الطابع البروتوكولي.
ركزت أعمال المؤتمر على تقييم تنفيذ خطة العمل المشتركة للفترة 2023–2026، وبحث ملامح خطة جديدة للفترة 2026–2029، في محاولة لإضفاء طابع استمراري على الشراكة، وتجاوز الانتقادات التي لطالما وُجهت لمثل هذه المنتديات بشأن محدودية أثرها العملي. وقد طغى على النقاش التأكيد الروسي المتكرر على نموذج شراكة قائم على المصالح المتبادلة واحترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وهو خطاب يجد صدى لدى عدد متزايد من الدول الأفريقية التي باتت أكثر حساسية تجاه الشروط السياسية والاقتصادية التي تفرضها القوى الغربية ومؤسسات التمويل الدولية.
في هذا الإطار، احتل ملف الأمن والسلم في إفريقيا موقعًا مركزيًا في مداولات المؤتمر، حيث شدد الجانب الروسي على أن تحقيق التنمية المستدامة في القارة يظل مرهونًا بتوفير الحد الأدنى من الاستقرار، وهو طرح يتقاطع مع رؤية العديد من الحكومات الأفريقية التي ترى في تدهور الأوضاع الأمنية العائق الأكبر أمام النمو. غير أن هذا الطرح لا ينفصل عن السعي الروسي لتعزيز دورها كفاعل أمني بديل أو موازٍ للغرب، سواء عبر التعاون العسكري الرسمي أو من خلال تقديم الدعم الفني والتدريب، وهو ما يثير جدلًا متزايدًا حول طبيعة هذا الدور وتداعياته بعيدة المدى.
اقتصاديًا، سعى المؤتمر إلى إبراز فرص توسيع التبادل التجاري والاستثماري بين روسيا والدول الأفريقية، خاصة في مجالات الطاقة، التعدين، البنية التحتية، والزراعة. وقد طُرحت هذه المجالات بوصفها ركيزة أساسية لبناء شراكة طويلة الأمد، في ظل حاجة إفريقيا المتزايدة للاستثمار ونقل التكنولوجيا، وسعي روسيا إلى فتح أسواق جديدة في مواجهة العقوبات الغربية المفروضة عليها. إلا أن التحدي الرئيسي الذي يظل مطروحًا يتمثل في الفجوة بين الطموحات المعلنة وحجم الاستثمارات الفعلية، إضافة إلى القيود اللوجستية والمالية التي تحد من انسياب التجارة بين الجانبين.
كما أولى المؤتمر اهتمامًا خاصًا بملفات التنمية البشرية وبناء القدرات، من خلال التأكيد على التعاون في مجالات التعليم والتدريب ونقل المعرفة، وهي مجالات تستخدمها روسيا لتعزيز قوتها الناعمة في إفريقيا، مستندة إلى إرث تاريخي يعود إلى الحقبة السوفيتية. ويُنظر إلى هذا البعد باعتباره عنصرًا مكملًا للأدوات السياسية والاقتصادية، يسهم في ترسيخ حضور روسي طويل الأمد داخل النخب والمؤسسات الأفريقية.
البيان المشترك الصادر عن المؤتمر عكس توافقًا عامًا على ضرورة تعميق الشراكة وتعزيز التنسيق السياسي في المحافل الدولية، لا سيما فيما يتعلق بقضايا إصلاح النظام الدولي وزيادة تمثيل إفريقيا في مؤسسات الحوكمة العالمية. غير أن هذا التوافق ظل في إطار العناوين العريضة، دون الدخول في آليات تنفيذ تفصيلية، ما يعكس طبيعة المنتدى كمساحة لبناء التفاهمات السياسية أكثر منه منصة لاتخاذ قرارات ملزمة.
في المحصلة، يمكن القول إن المؤتمر الوزاري الثاني لمنتدى الشراكة الروسية-الأفريقية مثّل خطوة إضافية في مسار تقارب متنامٍ بين روسيا وعدد كبير من الدول الأفريقية، تقارب تحكمه اعتبارات المصالح المتبادلة والتحولات الجيوسياسية العالمية أكثر مما تحكمه اعتبارات أيديولوجية. وبينما يوفّر هذا المسار لإفريقيا هامش مناورة أوسع في علاقاتها الدولية، فإنه يطرح في الوقت ذاته أسئلة جوهرية حول حدود هذا التعاون، وقدرته على تحقيق مكاسب تنموية حقيقية، بعيدًا عن أن يتحول إلى مجرد امتداد لصراعات القوى الكبرى على أرض القارة.

